الرفق وأثره في الدعوة إلى الله
*
إن من مظاهر سماحة الأخلاق في الإسلام أن يكون الإنسان رفيقاً في أحواله كلها، فالرفق مظهر من مظاهر سماحة الخلق، قال ابن الأثير: “والرفق: لين الجانب وهو خلاف العنف ومنه اللطف، ويقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة”.
وقال أبو حامد الغزالي: “اعلم أن الرفق محمود ويضاده العنف والحدة، والعنف نتيجة الغضب والفظاظة، والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة، فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ولأجل هذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق، قال سفيان الثوري لأصحابه: أتدرون ما الرفق؟ قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور في مواضعها: الشدة في موضعها، واللين في موضوعه، والسيف في موضعه، والسوط في موضعه، وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق كما قيل:
ووضع الندى في موضع السيف
مضر كوضع السيف في موضع الندى
فالمحمود وسط بين العنف واللين كما جاء في سائر الأخلاق.
هذا وقد دلّ القرآن الكريم على أهمية الرفق وضرورته، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران: 159].
وأمر الله موسى رضي الله عنه وأخاه هارون أن يخاطبا فرعون برفق ولين، قال اللهتعالى: {(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44) } [طه: 43 - 44].
هذا وقد دلت نصوص السنَّة النبوية على فضل الرفق وأهميته في حياة المسلم، فعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه”.
والرفق مما يحبه الله عزَّ وجلَّ، فقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”.
والرفق كله خير، فقد جاء في الحديث: “من يُحرمِ الرفق يُحرم الخيرَ كله”.
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن وجود الرفق والسماحة في قوم دليل على أن الله تعالى أراد بهم خيراً، فقد روي البزار عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أراد الله بقوم خيراً أدخل عليهم الرفق”.
ودعا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لمن رفق بأمته، فقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم. فاشقق عليه. ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به”.
وتتجلى مظاهر السماحة واللين من خلال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب الآكل بسبب الجوع والجهل من بستان غيره بغير إذنه وأخذ ثوبه فقد روى ابن ماجة عن عباد بن شرحبيل – رجل من بني غبر – قال: أصابنا عام مخمصة. فأتيت المدينة. فأتيت حائطاً من حيطانها. فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلته في كسائي. فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي. فأتيت النبي فأخبرته. فقال للرجل: “ما أطعمته إذ كان جائعاً أو ساغباً. ولا علمته إذ كان جاهلاً” فأمره النبي فرد إليه ثوبه. وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق.
ومن مظاهر الرفق والشفقة السماحة في تعليم الصغير، فقد روى مسلم عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه يقول: كنت في حجر رسول الله. وكانت يدي تطيش في الصَّحْفَةِ. فقال لي: “يا غلام سَمِّ الله. وكُلْ بيمينك. وكُلْ مما يليك”.
وفي رواية لأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال له: “ادن يا بني، وسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك”.
ولا تقتصر مظاهر الرفق والسماحة على المتعلمين فحسب، ولكنها تشمل الرفق مع المبتدئ والسماحة معه، فعندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن كان أول ما أوصاهما به أن: ىََسِّرا ولا تُعسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوَعا ولا تختَّلفا”.
قال ابن حجر: “والمراد تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدرج لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط وكانت عاقبته غالباً الازدياد بخلاف ضده”.
ومن الصور العملية التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم أصحابه كيف يكون الرفق مع المبتدئ ما جاء عن معاوية بن الحكم الأسلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شأَنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إليَّ. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، رأيتهم يُصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبأبي هو وأمي ما رأيت مُعلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن”.
هذا ولم تكن السماحة والرفق قاصرة على الصغير، ولا على المبتدئ، إنما تشمل كذلك الرفق بالحيوان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج فإذا بهو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي. فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر”.
قال ابن حجر: “وفي الحث على الإحسان لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب فسقي المسلم أعظم أجرا”.
إن الرفق في الدعوة إلى الله تعالى يؤدي إلى توثيق العلاقة بين الداعية والمدعوين؛ لأن نفوس الناس لا تُساس إلا بالرفق، ولا يتأتى التأثير على المدعو إلا من خلال التلطف معه، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، حيث كان صلى الله عليه وسلم قدوة في الرفق في تعليمه للجاهل وتوجيه المخطئ باللين وعدم تجريحه مما يحافظ على مشاعره، ويؤدي إلى كسبه واستقطابه واستجابته لتوجيهات الداعية.
يقول الشيخ الميداني: “وأولى الناس بالتخلق بخلق الرفق الدعاة إلى الله والمعلمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثِّر ما لم تقترن بخلق الرفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم الناس لا يؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرفق الذي يملك القلوب بالمحبة، أما العنف فمن شأنه التنفير من الداعي، والتنفير من المعلم، إن من توجه له الدعوة إلى الخير أو يراد تعليمه متى وجد العنف والشدة انكمشت عاطفته فانغلق قلبه ومتى انغلق قلبه انغلق فكره، وعندئذ يصير كصخرة صماء ترجع ولا تمتص بخلاف الداعي أو المعلم الرفيق الحليم ذي الأناة، فإنه يملك القلوب بالمحبة وعندئذ تتفتح له القلوب التي أحبته، ومتى انفتحت إليه الأفكار، وتأثرت به وتفاعلت معه آتت دعوته وأعماله ثمراتها طيبة يانعة”.
إن الهدف الرئيس للداعية هو أن يستقيم المدعوون على طاعة الله، ويحرصوا على الطاعات ويتجنبوا المنكرات، ولكي يتحقق له ذلك فلا بد من الرفق في الدعوة حتى يصل إلى هدفه المنشود.
“إن الداعية يواجه صنوفاً شتّى من الناس وأخلاقاً متنوعة من فئات المجتمع، ولكي ينجح الداعية في التعامل مع شتّى الطبقات، وتحت كافة الظروف فلا بد من التحلي بالرفق في الدعوة إلى الله وأن يتصف – في تعامله – بلين الجانب وسهولة المعاشرة حتى يفتح – لدعوته – مغاليق القلوب، وينفذ – بنصحه – إلى أعماق النفوس ومن هنا كان اتصاف الداعية بالرفق والتيسير في دعوته إلى الله شيئاً أساسياً في سلوكه إذا أراد السداد والصواب، وتتضح أهمية الرفق في حياة الدعاة باعتبار أن الداعية يبغي بدعوته هداية الناس إلى طاعة الله، واستنقاذهم مما يسخطه ويغضبه، وليس الأمر – بالنسبة له – مجرد أداء الواجب لتقوم الحجة على الناس فقط، ولا يتسنى للداعية أن يقوم بهذه الوظيفة إلا إذا اتصف بالحلم وطول النفس والتزم الرفق ولين الجانب”.
ولا شك أن سلوك طريق الرفق في الدعوة هو سبيل الأنبياء عليهم السلام، “إن الطريق الأمثل الذي سلكه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو الدعوة إلى الله تعالى في أول الأمر بالرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة الذي يشعر المدعو والمأمور والمنهي بأنك مشفق عليه وتحب له الخير حتى تتفتح لك نفسه ويستجيب للدعوة والأمر والنهي، فإن الناس في حاجة إلى كنف رحيم إلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج إلى عطاء، على الداعي أن يكون هيناً عطوفاً مشفقاً على الناس”.
وتتسع صورة الرفق لتشمل الرفق في أخذ الدين حتى يقدم الداعية صورة معتدلة للتدين الحق، “إن الرفق في أخذ الدين هو العامل الرئيس في تكوين صورة متزنة عند الداعية المسلم وإن صورة الاتزان هذه تكمن في التعامل مع الفطرة وعدم معارضتها بما لا تطيق، وإنه ما من مسلم يأخذ هذا الدين بصورة غير طبيعية بها نوع من العنف مع نفسه وفطرته إلا نتج عنه انحراف عن المنهج الرباني الصحيح.. وهناك نتيجة أخرى وهي: التقوقع واعتزال الناس وهو مرض نفسي ناتج من الأخذ غير المتزن؛ فالمطلوب في هذا الدين الرفق في أخذ أحكامه، والرفق في تطبيقها وليست الشدة في أخذ هذا الدين وترك الرفق من التقوى
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]