أسباب النصر والتمكين ( في الماضي والحاضر)
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وكان من حكمته لكل نصر أسباب وشؤون ، ليميز الخبيث من الطيب ؛ فإما أن تكون على الهدى أو لا تكون . أنزل الكتاب ، وأجرى السحاب ، وهزم الأحزاب ، وجعل كيد الكافرين إلى تباب ، ونهايتهم إلى هلكة وعذاب ؛ وديارهم إلى تشتت وخراب ؛ لكن ... متى ؟ فاتعظوا يا أولي الألباب .
وصلى الله وبارك على محمد الذي أجهد بالدعاء نفسه قبل أن يشتد الوطيس ، وهيأ رجالاً ملأ الإيمان قلوبهم ؛ فكانت مرحلة الإعداد والتأسيس ، ثم اشتد على الكفار فلا ترى لهم حراكاً ولا يُسمع لهم حسيس .
أما بعد ؛
فما إن تمرّ بالمسلمين فتنة جديدة حتى تتعالى الصرخات وتكثر الآهات ؛ متسائلين عن أسباب النصر والتمكين ، وأين حماة الإسلام والمسلمين ؟!
وكلنا يعلم أن النصر من عند الله ، قال الله تعالى : { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } [ آل عمران : 126 ] .
إذن فلا يصحُّ أن يوجّه السؤال عن النصر إلا لمالك النصر .
والله سبحانه وتعالى بيّن لنا كل ما نحتاج إليه في ديننا ودنيانا في الرسالة التي أرسل بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهي الكتاب والسنة ، فبلّغ صلى الله عليه وسلم تلك الرسالة خير بلاغ ، ولم يقبضه سبحانه وتعالى حتى أكمل الدين ، قال عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ المائدة : 3] .
وأمرنا تبارك وتعالى بالتمسك بالكتاب والسنة علماً وعملاً فقال : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا } [ آل عمران : 103] .
وقال : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59] .
وقال : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7] .
وقال عليه الصلاة والسلام : " كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى " ، قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : " من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى " أخرجه البخاري .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وحذرنا سبحانه من مخالفة أمر النبي صلى الله علي وسلم فقال : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [ النور : 63 ] .
وقال : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } [ النساء : 115 ] .
إذا فلا بد من الرجوع إلى شرع الله لمعرفة أسباب النصر والتمكين وللوصول إليها .
قال سبحانه وتعالى : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } [ الحج 40 – 41 ] .
قال الشيخ ابن عثيمين في مجلس من " مجالس شهر رمضان " :
" وفي هاتين الآيتين بيان الأوصاف التي يُسْتَحَقُّ بها النصر , وهي أوصاف يتحلى بها المؤمن بعد التمكين في الأرض ، فلا يغريه هذا التمكين بالأشر والبطر والعلو والفساد ، وإنما يزيده قوة في دين الله وتمسكا به ؛
الوصف الأول : { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة } [ الحج : 41 ] ، والتمكين في الأرض لا يكون إلا بعد تحقيق عبادة الله وحده كما قال تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } [النور : 55 ] ، فإذا قام العبد بعبادة الله مخلصا له في أقواله وأفعاله لا يريد بها إلا وجه الله والدار الآخرة , ولا يريد بها جاها ولا ثناء من الناس ولا مالا ولا شيئا من الدنيا ، واستمر على هذه العبادة المخلصة في السراء والضراء والشدة والرخاء مكن الله له في الأرض , وإذن فالتمكين في الأرض يستلزم وصفا سابقا عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له وبعد التمكين والإخلاص يكون ؛
الوصف الثاني : وهو إقامة الصلاة بأن يؤدي الصلاة على الوجه المطلوب منه قائما بشروطها وأركانها وواجباتها , وتمام ذلك القيام بمستحباتها , فيحسن الطهور , ويقيم الركوع والسجود والقيام والقعود , ويحافظ على الوقت وعلى الجمعة والجماعات , ويحافظ على الخشوع وهو حضور القلب وسكون الجوارح , فإن الخشوع روح الصلاة ولبها , والصلاة بدون خشوع كالجسم بدون روح ، وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها » .
الوصف الثالث : إيتاء الزكاة { وآتوا الزكاة } بأن يعطوها إلى مستحقيها طيبة بها نفوسهم كاملة بدون نقص يبتغون بذلك فضلا ورضوانا ، فيزكون بذلك أنفسهم ، ويطهرون أموالهم ، وينفعون إخوانهم من الفقراء والمساكين وغيرهم من ذوي الحاجات , وقد سبق بيان مستحقي الزكاة الواجبة في المجلس السابع عشر .
الوصف الرابع : الأمر بالمعروف { وأمروا بالمعروف} والمعروف : كل ما أمر الله به ورسوله من واجبات ومستحبات , يأمرون بذلك إحياء لشريعة الله وإصلاحا لعباده واستجلابا لرحمته ورضوانه , فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا , فكما أن المؤمن يحب لنفسه أن يكون قائما بطاعة ربه فكذلك يجب أن يحب لإخوانه من القيام بطاعة الله ما يحب لنفسه .
والأمر بالمعروف عن إيمان وتصديق أن يكون قائما بما أمر به عن إيمان واقتناع بفائدته وثمراته العاجلة والآجلة .
الوصف الخامس : النهي عن المنكر { ونهوا عن المنكر } , والمنكر كل ما نهى الله عنه ورسوله من كبائر الذنوب وصغائرها مما يتعلق بالعبادة أو الأخلاق أو المعاملة ، ينهون عن ذلك كله صيانة لدين الله وحماية لعباده واتقاء لأسباب الفساد والعقوبة .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبقاء الأمة وعزتها ووحدتها حتى لا تتفرق بها الأهواء وتتشتت بها المسالك , ولذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين على كل مسلم ومسلمة مع القدرة { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 104 - 105 ] ، فلولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتفرق الناس شيعا ، وتمزقوا كل ممزق كل حزب بما لديهم فرحون ، وبه فضلت هذه الأمة على غيرها { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } [ آل عمران : 110 ] ، وبتركه { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } [ المائدة : 78 - 79 ] ، فهذه الأوصاف الخمسة متى تحققت مع القيام بما أرشد الله إليه من الحزم والعزيمة وإعداد القوة الحسية حصل النصر بإذن الله " .
قلت : وأخرج أبو داود في " سننه " (3462) ، وغيره عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " . وهو حديث صحيح ، صححه جمع من أهل الحديث .
بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أن السبب الرئيسي في وقوعنا في الذل ، وتكالب الأمم علينا ؛ هو ركوننا إلى الدنيا والانشغال بها عن الآخرة وعدم المبالات بأوامر الله ، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ مما سبب انتشار الفواحش والمنكرات في مجتمعاتنا ؛ الأمر الذي أوصلنا إلى الحال الذي نحن عليه اليوم.
ويوضّح لنا هذا المعنى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الأثر الذي أخرجه الحاكم في " مستدركه " (1/103 – العلمية ) عن طارق بن شهاب أنه قال : خرج عمر بن الخطاب إلى الشام و معنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة و عمر على ناقة له فنزل عنها و خلع خفيه فوضعهما على عاتقه و أخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة ، فقال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا تخلع خفيك و تضعهما على عاتقك و تأخذ بزمام ناقتك و تخوض بها المخاضة ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك فقال عمر : أوه لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد صلى الله عليه و سلم إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله " .
فماذا سيفعل الله بأمة طلبت العزة بالديمقراطية ، والشيوعية ، والحزبية ، والرأسمالية، وغير ذلك من سبل الفساد ؟!
وأخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن جبير بن نفير قال : لما فتحت مدائن قبرص وقع الناس يقتسمون السبي ويفرقون بينهم ويبكي بعضهم على بعض فتنحى أبو الدرداء ثم احتبى بحمائل سيفه فجعل يبكي ، فأتاه جبير بن نفير فقال : ما يبكيك يا أبا الدرداء ؟ أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟ وأذل فيه الكفر وأهله ؟! فضرب على منكبيه ثم قال : ثكلتك أمك يا جبير بن نفير ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة على الناس لهم الملك ؛ حتى تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى ؛ وإنه إذا سُلِّط السباء على قوم فقد خرجوا من عين الله ليس لله بهم حاجة .
فما أهوننا على الله إذ ضيعنا أمره ، وما أهوننا على الله إذ صار كل أمر في حياتنا أولى وأهم من أمره ، وما أهوننا على الله إذ صارت فرائضه وأوامره نوافل عندنا نتذكرها إذا فرغنا من كل ما هو أهم منها ، فإنا أخرنا نصره فأخّر نصرنا .
فمن أراد النصر بصدق فليبادر إلى التوبة وإصلاح نفسه أولاً ثم يشتغل بإصلاح الآخرين ؛ عسى الله أن ينفع به الإسلام والمسلمين .
واعلم أنه لن ينفعك أن تأخذ ببعض الدين الذي يوافق هواك وتترك بعضه الذي لا يوافق هواك ؛ مفرّقاً بين اللب والقشور في زعمك ؛ بل دين الله كله لب ، وكله مطلوب مأمور به ؛ قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } ، أي : ادخلوا في جميع جوانب الإسلام .
وإذ علمت ذلك ؛ فاحكم أنت على من قال في الخميني رأس الكفر إنه الأب الروحي لدعوتنا ، ومن قال : لا يضرّني أن يتشيّع أهل بلادي ، ومن قال : نحن لا نجبر النساء على الحجاب ؛ إذ لا إكراه في الدين ؛ هل سينصر الله أمثال هؤلاء ؟!